فصل: الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم على الأرض المقدسة بالشام وكيف تجددت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم على الأرض المقدسة بالشام وكيف تجددت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال:

لقد ذكرنا عند ذكر إبراهيم وبنيه صلوات الله عليه وسلامه عليهم ما كان من شأن يعقوب بن إسحق واستقراره بمصر مع بنيه الأسباط وفي التوراة أن الله سماه إسرائيل وإيل عندهم كلمة مرادفة لعبد وما قبلها من أسماء الله عز وجل وصفاته والمضاف أبدا متأخر في لسان المعجم فلذلك كان إيل هو آخر الكلمة وهو المضاف ثم قبض الله نبيه يعقوب بمصر لمائة وسبع وثمانين سنة من عمره وأوصى أن يدفن عند أبيه فطلب يوسف من فرعون أن يطلقه لذلك فأذن له وأمر أهل دولته بالإنطلاق معه فانطلقوا وحملوه إلى فلسطين فدفنوه بمقبرة آبائه وهي التي اشتراها إبراهيم من الكنعانيين ورجع يوسف إلى مصر وأقام بها إلى أن توفي لمائة وعشرين سنة من عمره ودفن بمصر وأوصى أن يحملوا شلوه معهم إذا خرجوا إلى أرض الميعاد وهي الأرض المقدسة.
وأقام الأسباط بمصر وتناسلوا وكثروا حتى ارتاب القبط بكثرتهم واستعبدوهم وفي التوراة أن ملكا من الفراعنة جاء بعد يوسف لم يعرف شأنه ولا مقامه في دولة آبائه فاسترق بني إسرائيل واستعبدهم ثم تحدث الكهان من أهل دولتهم بأن نبوة تظهر في بني إسرائيل وأن ملكك كائن لهم مع كان معلوما من بشارة آبائهم لهم بالملك فعمد الفراعنة إلى قطع نسلهم بذبح الذكور من ذريتهم فلم يزالوا على ذلك مدة من الزمان حتى ولد موسى وهو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وأمه يوحانذ بنت لاوى عمه عمران وكان قاهث بن لاوى من القادمين إلى مصر مع يعقوب عليه السلام وولد عمران بمصر وولد هارون لثلاث وسبعين من عمره وموسى ثمانين فجعلته أمه في تابوت وألقته في ضحضاح أليم وأرصدت أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فتعرفه فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت فرحمته وقالت: هذا من العبرانيين فمن لنا بظئر ترضعه فقالت لها أخته أنا آتيكم بها وجاءت بأمه فاسترضعها له ابنة فرعون إلى أن فصل فأتت به إلى ابنة فرعون وسمته موسى وأسلمته لها ونشأ عندها ثم شب وخرج يوما يمشي في الناس وله وصولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع فهم لذلك أخواله فرأى عبرانيا يضربه مصري الذي ضربه ودفنه وخرج يوما آخر فإذا هو برجلين من بني اسرائيل وقد سطا أحدهما على الأخر فزجره فقال له ومن جعل لك هذا؟ أتريد أن تقتلني كما قتلت الآخر بالأمس ونمي الخبر إلى فرعون فطلبه وهرب موسى إلى أرض مدين عند عقبة أيلة.
وبنو مدين أمة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام كانوا ساكنين هناك وكان ذلك لأربعين سنة من عمره فلقى عند مائهم بنتين لعظيم من عظمائهم فسقى لهما وجاءتا به إلى أبيهما فزوجه بإحداهما كما وقع في القرآن الكريم وأكثر المفسرين على أنه شعيب بن نوفل بن عيقا بن مدين وهو النبي صلى الله عليه وسلم وقال الطبري: الذي استأجر موسى وزوجه بنته رعويل وهو بيتر حبر مدين أي عالمهم وأن رعويل هو الذي زوجه البنت وأن اسمه يبتر وعن الحسن البصري أنه شعيب رئيس بني مدين وقيل إنه ابن أخي شعيب وقيل ابن عمه فأقام عند شعيب صهره مقبلا على عبادة ربه إلى أن جاءه الوحي وهو ابن ثمانين سنة وأوحى إلى أخيه هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة فأوحى الله إليهما بأن يأتيا فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذانهم من مملكة القبط وجور الفراعنة ويخرجون إلى الأرض المقدسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب فخرجا إليه وبلغا بني إسرائيل الرسالة فآمنوا به واتبعوه ثم حضرا إلى فرعون وبلغاه أمره الله له بأن يبعث معهما بني إسرائيل وأراه موسى عليه السلام معجزة العصا فكان من تكذيبه وامتناعه وإحضار السحرة لما رآى موسى في معجزته ثم إسلامهم ما نصه القرآن العظيم.
ثم تمادى فرعون في تكذيبه ومناصبته واشتد جوره على بني إسرائيل واستعبادهم واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال فأصابت وقومه الجوائح العشرة واحدة بعد أخرى يسالمهم عند وقوعها ويتضرع إلى موسى في الدعاء بانجلائها إلى أن أوحى الله إلى موسى بخروج بني إسرائيل من مصر ففي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم إن كان كفايتهم أو يشتركون مع جيرانهم إن كان أكثر وأن ينضحوا دمه على أبوابهم لتكون علامة وأن يأكلوه سواء برأسه وأطرافه ومعناه لا يكسرون منه عظما ولا يدعون شيئا خارج البيوت وليكن خبزهم فطيرا ذلك اليوم وسبعة أيام بعده وذلك في اليوم الرابع عشر من فضل الربيع وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيدهم ويخرجوا ليلا وما فضل من عشائهم ذلك يحرقوه بالنار وشرع هذا عيدا لهم ولا عقابهم ويسمى عيد الفصح.
وفي التوراة أيضا إنه قتل في تلك الليلة أبكار النساء من القبط ودوابهم ومواشيهم ليكون لهم بذلك ثقل عن بني إسرائيل وأنهم أمروا أن يستعيروا منهم حليا كثيرا يخرجون به فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام وكانوا ستمائة ألف أو يزيدون وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام استخرجه موسى صلوات الله عليه من المدفن الذي كان به إلهام من الله تعالى وساروا لوجههم حتى انتهوا إلى ساحل البحر بجانب الطور وأدركهم فرعون وجنوده وأمر موسى بأن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه فضربه فانفلق طرقا وسار فيها بنو إسرائيل وفرعون وجنوده في اتباعه فهلكوا ونزل بنو إسرائيل بجانب الطور وسبحوا مع موسى بالتسبيح المنقول عندهم وهم: نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود إلى آخره قالوا: وكانت مريم أخت موسى وهارون صلوات الله عليهما تأخذ الدف بيدها ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول وهي ترتل لهن التسبيح سبحان الرب القهار الذي قهر الخيول وركبانها ألقاها في البحر وهو معنى الأول ثم كانت المناجاة على جبل الطور وكلام الله لموسى والمعجزات المتتابعة ونزول الألواح ويزعم بنو إسرائيل أنها كانت لوحين فيها الكلمات العشرة وهي: كلمة التوحيد والمحافظة على السبت بترك الأعمال فيه وبر الوالدين ليطول العمر والنهي عن القتل والزنا والسرقة وشهادة الزور ولا تمتد عين إلى بيت صاحبه أو امرأته أو لشيء من متاعه هذه الكلمات العشرة التي تضمنتها الألواح.
وكان سبب نزول الألواح أن بني إسرائيل لما نجوا ونزلوا حول طور سينا صعد موسى إلى الجبل فكلمه ربه وأمره أن يذكر بني إسرائيل بالنعمة عليهم في نجاتهم من فرعون وأن يتطهروا ويغسلوا ثيابهم ثلاثة أيام ويجتمعوا في اليوم الثالث حول الجبل من بعد ففعلوا وظلت الجبل غمامة عظيمة ذات بروق ورعود ففزعوا وقاموا في سفح الجبل دهشين ثم غشى الجبل دخان في وسطه عمود نور وتزلزل له الجبل زلزلة عظيمة شديدة واشتد صوت الرعد الذي كانوا يسمعونه وأمر موسى صلوات الله عليه بأن يقرب بني إسرائيل لسماع الوصايا والتكاليف قال فلم يطيقوا فأمر بحضور هارون وتكون العلماء غير بعيد ففعل وجاءهم بالألواح.
ثم سار بعد ذلك إلى ميعاد الله بعد أربعين ليلة فكلمه ربه وسأله الرؤية فمنعها فكان الصعق وساخ الجبل وتلقى كثيرا من أحكام التوراة في المواعظ والتحليل والتحريم وكان حين سار إلى الميعاد استخلف أخاه هارون على بني اسرائيل واستبطؤا موسى وكان هارون قد أخبرهم بأن الحلى الذي أخذوه للقبط محرم عليهم فأرادوا حرقه وأوقدوا عليه النار وجاء السامري في شيعة له من بني إسرائيل وألقى عليه شيئا كان عنده من أثر الرسول فصار عجلا وقيل عجلا حيوانا وعبده بنو إسرائيل وسكت عنهم هارون خوفا من افتراقهم وجاء موسى صلوات الله عليه من المناجاة وقد أخبر بذلك في مناجاته فلما رآهم على ذلك ألقى الألواح ويقال كسرها وأبدل غيرها من الحجارة وعند بني إسرائيل أنهما اثنان وظاهر القرآن أنها أكثر مع أنه لا يبعد استعمال الجمع في الاثنين ثم أخذ برأس أخيه ووبخه واعتذر له بما اعتذر ثم حرق العجل وقيل برده بالمبرد وألقاه في البحر.
وكان موسى صلوات الله عليه لما نجا ببني إسرائيل إلى الطور بلغ خبره إلى بيثر صهره من بني مدين فجاء ومعه بنته صفورا زوجة موسى عليه السلام التي زوجها به أبوها رعويل كما تقدم ومعها ابناها من موسى وهما جرشون وعازر فتلقاها موسى صلوات الله عليه بالبر والكرامة وعظمه بنو إسرائيل ورأى كثرة الخصومات على موسى فأشار عليه بأن يتخذ النقباء على كل مائة أو خمسين أو عشرة فيفصلوا بين الناس وتفصل أنت فيما أهم وأشكل ففعل ذلك.
ثم أمر الله موسى ببناء قبة للعبادة والوحي من خشب الشمشاد ويقال هو السنط وجلود الأنعام وشعر الأغنام وأمر بتزيينها بالحرير والمصبغ والذهب والفضة على أركانها صور منها صور الملائكة الكروبيين على كيفيات مفصلة في التوراة في ذلك كله ولها عشر سرادقات مقدرة الطول والعرض وأربعة أبواب وأطناب من حرير منقوش مصبغ وفيها دفوف وصفائح من ذهب وفضة وفي كل زاوية بابان وأبواب وستور من حرير وغير ذلك مما هو مشروح في التوراة وبعمل تابوت من خشب الشمشاد طول ذراعين ونصف في عرض ذراعين في ارتفاع ذراع ونصف مصفحا بالذهب الخالص من داخل وخارج وله أربع حلق في أربع زوايا وعلى حافته كروبيان من ذهب يعنون مثالي ملكين بأجنحة ويكونان متقابلين وأن يصنع ذلك كله فلان شخص معروف من بني إسرائيل وأن يعمل مائدة من خشب الشمشاد طول ذراعين في عرض ذراع ونصف بطناب ذهب وإكليل ذهب بحافة مرتفعة بإكليل ذهب وأربع حلق ذهب في أربع نواحيها مغروزة في مثل الرمانة من خشب ملبس ذهبا وصحافا ومصافي وقصاعا على المائدة كلها من ذهب وأن يعمل منارة من ذهب بست قصبات من كل جانب ثلاث وعلى كل قصبة ثلاث سرج وليكن في المنارة أربعة قناديل ولتكن هي وجميع آلاتها من قنطار من ذهب وأن يعمل مذبحا للقربان ووصف ذلك كله في التوراة بأتم وصف.
ونصبت هذه القبة أول يوم من فصل الربيع ونصبت فيها تابوت الشهادة وتضمن هذا الفصل في التوراة من الأحكام والشرائع في القربان والنحور وأحوال هذه القبة كثيرا وفيها: أن قبة القربان كانت موجودة قبل عبادة أهل العجل وأنها كانت كالكعبة يصلون إليها وفيها ويتقربون عندها وأن أحوال القربان كانت كلها راجعة إلى هارون عليه السلام بعهد الله إلى موسى بذلك وأن موسى صلوات الله عليه كان إذا دخلها يقفون حولها وينزل عمود الغمام على بابها فيخرون عند ذلك سجدا الله عز وجل ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام هو نور ويخاطبه ويناجيه وينهاه وهو واقف عند التابوت صامد لما بين ذينك الكروبيين فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه بشيء يجيء إلى قبة القربان ويقف عند التابوت ويصمد لما بين ذينك الكروبيين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الخصومة.
ولما نجا بنو إسرائيل ودخلوا البرية عند سينا أول المصيف لثلاثة أشهر من خروجهم من مصر وواجهوا جبال الشام وبلاد بيت المقدس التي وعدوا بها أن تكون ملكا لهم على لسان إبراهيم وإسحق ويعقوب صلوات الله عليه بمسيرهم إليها وأتوه بإحصاء بني إسرائيل من يطيق حمل السلاح منهم من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون وضرب عليهم الغزو رتب المصاف والميمنة والميسرة وعين مكان كل سبط في التعبية وجعل فيه التابوت والمذبح في القلب وعين لخدمتها بني لاوى من أسباطهم وأسقط عنهم القتال لخدمة القبة وسار على التعبية سالكا على برية فاران وبعثوا منهم اثني عشر نقيبا من جميع الأسباط فأتوهم بالخبر عن الجبارين كان منهم كالب بن يوفنا بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب ويوشع بن نون بن أليشامع بن عميهون بن بارص بن لعدان بن تاحن بن تالح بن أراشف بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب فاستطابوا البلاد واستعظموا العدو من الكنعانيين والعمالقة ورجعوا إلى قومهم يخبرونهم الخبر وخذلوهم إلا يوشع وكالب فقالا لهم ما قالا وهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما وخامر بنو إسرائيل عن اللقاء وأبوا من السير إلى عدوهم والأرض التي ملكهم الله إلى أن يهلك الله عدوهم على غير أيديهم.
فسخط الله ذلك منهم وعاقبهم بأن لا يدخل الأرض المقدسة أحد من ذلك الجيل إلا كالبا ويوشع وإنما يدخلها أبناؤهم والجيل الذي بعدهم فأقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا وفاران يترددون حوالي جبال الشراة وأرض ساعير وأرض بلاد الكرك والشوبك وموسى صلوات الله عليه بين ظهرانيهم يسأل الله لطفه بهم ومغفرته ويدفع عنهم مهالك سخطه وشكوا الجوع فبعث الله لهم المن حبات بيض منتشرة على الأرض مثل ذرير الكزبرة فكانوا يطحنونه ويتخذون منه الخبز لأكلهم ثم قرموا إلى اللحم فبعث لهم السلوى طيرا يخرج من البحر وهو طير السماني فيأكلون منه ويدخرون ثم طلبوا الماء فأمر أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا وأقاموا على ذلك ثم ارتاب واحد منهم اسمه فودح بن إيصهر بن قاهث وهو ابن عم موسى بن عمران بن قاهث فارتاب هو وجماعة منهم من بني إسرائيل بشأن موسى واعتمدوا مناصبته فأصابتهم قارعة وخسفت بهم وبه الأرض وأصبحوا عبرة للمعتبرين واعتزم بنوا إسرائيل على الاستقالة مما فعلوه والزحف إلى العدو ونهاهم موسى عن ذلك فلم ينتهوا وصعدوا جبل العمالقة فحاربهم أهل ذلك الجبل فهزموهم وقتلوهم في كل وجه فأمسكوا وأقام موسى على الاستغفار لهم فأرسل إلى ملك أدوم يطلب الجواز عليه إلى الأرض المقدسة فمنعهم وحال دون ذلك.
ثم قبض هارون صلوات الله عليه لمائة وثلاثة وعشرين سنة من عمره ولأربعين سنة من يوم خروجهم من مصر وحزن له بنو إسرائيل لأنه كان شديد الشفقة عليهم وقام بأمره الذي كان يقوم به ابنه العيزار ثم زحف بنو إسرائيل إلى بعض ملوك كنعان فهزموهم وقتلوهم وغنموا ما أصابوا معهم وبعثوا إلى سيحون ملك العموريين من كنعان في الجواز في أرضه إلى الأرض المقدسة فمنعهم وجمع قومه وغزا بني اسرائيل في البرية فحاربوه وهزموه وملكوا بلاده إلى حد بني عمون ونزلوا مدينته وكانت لبني مؤاب وتغلب عليها سيحون ثم قاتلوا عوجا وقومه من كنعان وهو المشهور بعوج بن عوق وكان شديد البأس فهزموه وقاتلوه وبنيه وأثخنوا في أرضه وورثوا أرضهم إلى الأردن بناحية أريحا وخشي ملك بني مؤاب من بني إسرائيل واستجاش بمن يجاوره من بني مدين وجمعهم ثم أرسل إلى بلعام بن باعورا وكان ينزل في التخم بين بلاد بني عمون وبني مؤاب وكان مجاب الدعوة معبرا للأحلام واستدعاه ليستعين بدعائه وأتاه الوحي بالنهي عن الدعاء وألح عليه ذلك الملك وأصعده إلى الأماكن الشاهقة وأراه معسكر بني إسرائيل منها فدعا لهم وأنطقه الله بظهورهم وأنهم يملكون إلى الموصل ثم تخرج أمة من أرض الروم فيغلبون عليهم فغضب الملك وانصرف بلعام إلى بلاده.
وفشا بني إسرائيل الزنا ببنات مؤاب ومدين فأصابهم الموتان فهلك منهم أربعة وعشرون ألفا ودخل فحناص بن لغزرا على رجل من بني إسرائيل في خيمته ومعه امرأة من بني مدين قد أدخلها للزنا بمرأى من بني إسرائيل فطعنها برمحه وانتظمها وارتفع الموتان عن بني إسرائيل ثم أمر الله موسى وألعازر بن هارون بإحصاء بني اسرائيل بعد فناء الجبل الذي أحصاهم موسى وهارون ببربة سينا وانقضاء الأربعين سنة التي حرم الله عليهم فيها دخول تلك الأرض وأن يبعث بعثا من بني إسرائيل إلى مدين الذين أعانوا بني مؤاب فبعث اثني عشر ألفا من بني إسرائيل وعليهم فنحاص بن العيزر بن العزر بن هارون فحاربوا بني مدين وقتلوا ملوكهم وسبوا نساءهم وملكوا أموالهم وقسم ذلك في بني إسرائيل بعد أن أخذ منه الله وكان فيمن قتل بلعام بن باعورا ثم قسم الأرض التي ملك من بني مدين والعموريين وبني عمون وبني مؤاب ثم ارتحل بنو إسرائيل ونزلوا شاطئ الأردن وقال الله قد ملكتكم ما بين الأردن والفرات كما وعدت آباءكم ونهوا عن قتال عيصو الساكنين ساعير وبني عمون وعن أرضهم وأكمل الله الشريعة والأحكام والوصايا لموسى عليه السلام وقبضه إليه لمائة وعشرين سنة من عمره بعد أن عهد إلى فتاه يوشع أن يدخل بيني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ليسكنوها ويعملوا بالشريعة التي فرضت عليهم فيها ودفن بالوادي في أرض مؤاب ولم يعرف قبره لهذا العهد.
وقال الطبري: مدة عمر موسى صلوات الله عليه مائة وعشرون سنة منها في أيام أفريدون عشرون ومنها في أيام منوجهر مائة قال: ثم سار يوشع من بعد موسى إلى أريحا فهزم الجبارين ودخلها عليهم وقال السدي: إن يوشع تنبأ بعد موسى وسار إلى أريحا فهزم الجبارين ودخلها عليهم وأن بلعام بن باعورا كان مع الجبارين يدعو على يوشع فلم يستجب له وصرف دعاؤه على الجبارين وكان بلعام من قرى البلقاء وكان عنده الاسم الأعظم فطلبه الكنعانيون في الدعاء على بني إسرائيل فامتنع وألحوا عليه فأجاب ودعا فصرف دعاؤه وكان قيامه للدعاء على جبل حسان مطلا على عسكر بني إسرائيل هذا خبر السدي في أن دعاء بلعام كان لعهد يوشع والذي في التوراة إنه كان لعهد موسى وأن بلعام قتل لعهد موسى كما مر في خبر الطبري.
وقال السدي: إن يوشع بعد وفاة موسى صلوات الله عليه أمر أن يعبر فسار ومعه التابوت تابوت الميثاق حتى عبر الأردن وقاتل الكنعانيين فهزمهم وأن الشمس جنحت للغروب يوم قتالهم ودعا الله يوشع فوقفت الشمس حتى تمت عليهم الهزيمة ثم نازل أريحاء ستة أشهر وفي السابع نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فاستباحوها وأحرقوها وكمل الفتح واقتسموا بلاد الكنعانيين كما أمرهم الله هذا مساق الخبر عن سيرة موسى صلوات الله عليه وبني إسرائيل أيام حياته وبعد مماته حتى ملكوا أريحا.
وفي كتب الإخباريين أن العمالقة الذي كانوا بالشام قاتلهم يوشع فهزمهم وقتل آخر ملوكهم وهو السميدع بن هوبر بن مالك وكان لقاؤهم إياه مع بني مدين في أرضهم وفي ذلك يقول عوف بن سعد الجرهمي:
ألم تر أن العلقمي بن هوبر ** بأيلة أمسى لحمه قد تمزعا

ترامت عليه من يهود جحافل ** ثمانون ألفا حاسرين ودرعا

ذكره المسعودي وقد تقم لنا خلاف النسابة في هؤلاء العمالقة وأنه لعمليق بن ولاذ أو لعمالق بن أليفاز بن عيصو الثاني لنسابة بني إسرائيل سار إليه علماء العرب وأما الأمم الذين كانوا بالشام لذلك العهد فأكثرهم لبني كنعان وقد تقدمت شعوبهم وبنو أروم أبناء عمون وبنو مؤاب أبناء لوط وثلاثتهم أهل يستعير وجبال الشراة وهي بلاد الكرك والشوبك والبلقا ثم بنو فلسطين من بني حام ويسمى ملكهم جالوت هو من الكنعانيين منهم ثم بنو مدين ثم العمالقة ولم يؤذن لبني إسرائيل في غير بلاد الكنعانيين فهي التي اقتسموها وملكوها وصارت لهم تراثا وأما غيرها فلم يكن لهم فيها إلا الطاعة والمغارم الشرعية من صدقة وغيرها.
وفي كتب الأخباريين أن بني إسرائيل بعد ملكهم الشام بعثوا بعوثهم إلى الحجاز وهنالك يومئذ أمة من العمالقة يسمون جاسم وكان اسم ملكهم الإرم بن الأرقم وكان أوصاهم أن لا يستبقوا منهم من بلغ الحلم فلما ظهروا على العمالقة وقتلوا الأرقم استبقوا ابنه وضنوا به عن القتل لوضاءته ولما رجعوا من بعد الفتح وبخهم إخوانهم ومنعوهم دخول الشام وأرجعوهم إلى الحجاز وما تملكوا من أرض يثرب فنزلوها واستتم لهم فتح في نواحيها ومن بقاياهم يهود خيبر وقريظة والنضير قال ابن إسحق قريظة والنضير والتحام وعمرو هو هزل من الخزرج وقال ابن الصريح: ابن التومان بن السبط بن أليسع بن سعد ابن لاوى بن النمام بن يحتوم بن عازر بن عزر بن هارون عليه السلام واليهود لا يعرفون هذه القصة وبعضهم يقول كان ذلك لعهد طالوت والله أعلم.